الأربعاء، 1 مايو 2013

الكلاكسي اختياري


الكلاكسي اختياري



مرت مدة طويلة على آخر لقاء بها حين وجدتني جالسا قربها في الترام . بهرتني بشكلها و قد امتلأت أنوثة و رقة لا تكاد تخطؤها العين . إنا تذكرني بكبرى بناتي .


ـ هل تزوجت ؟


ـ لا ليس بعد


ـ هل أنت مخطوبة ؟


ـ لا ليس بعد


توقفت أسئلتي خوفا من سماع " لا " ثالثة و أشحت بوجهي نحو الفضاء الذي أتاحه لي الترام و هو يمر على قنطرة الحسن
الثاني على نهر أبي رقراق و الرابطة بين مدينة سلا و مدينة الرباط العاصمة المغربية .





الحقيقة أني كنت أتظاهر بالنظر إلى انسياب النهر في البحر و اختلاط الأُُجاج بالفـُرات .اختلاطا يطابق اختلاط الأفكار في ذهني حول ما سمعته قبل لحظات من الفتاة .


ترددت كثيرا قبل معاودة الكلام . لكني نظرت إلى الساعة و حسبت خمسة عشر دقيقة قبل وصولي الى مقصدي . و عندها سألتها:

ـ لم أفهم كلامك . أخبرتني في آخر مكالمة بيننا منذ أشهر أنك على وشك الإرتباط وأكدت على ضرورة حضوري في الخطوبة القريبة و...


قاطعتني بأدبها المعروف و نظرت إلى ساعتها هنيهة . و انطلقت في حديث مركز بل في بوح رقيق شفاف . استمرت لدقائق اعتقدت أنها ساعات بسبب كثرة المعلومات و الآهات التي تخللت عرض المعلومات. آهات تنم عن ضيقها في القدرة على اتخاذ قرار في مُـلماتها ، و حيرتها في صواب القرار الذي قد تصل إليه في لحظة من اللحظات .


كانت تتحدث بحرقة عن حالها و عن موقف أهلها من الموضوع.فقد أصبحت كما أخبرتني عصبية المزاج إلى الحد الذي جعلها لا تتحمل ليس الآخرين بل نفسها . أكدت لي أن "الآخرين " في لحظة من اللحظات شمل أسرتها الصغيرة أيضا .


لم أنتظر سماع ما سمعت منها .و لم أكن أتخيل أنها وصلت إلى ما وصلت إليه . لم أهتم بخواطري لأنني كنت أنتظر منها معلومة واحدة و هي : لماذا لم يتقدم لخطبتها ؟


لم أترد في طرح السؤال عليها .لكن ما ان وقع في أذنيها حتى نظرت إلي نظرة تعجب كأنها إما أنها لم تكن تنتظر ذلك السؤال، أو أنها تعجبت كيف فاتها أن تشير إلى المشكل في نهاية حديثها الأول . نظرت إلي دون أن تنطق بكلمة .نظرت إليها كذلك رافعا حاجبي كأنني أقول لها: هذا ما حدث ؟ استمررت في النظر إليها مبتسما  معلنا بذلك استعدادي لسماع المزيد . سكتت قليلا ثم استعادت زمام المبادرة لكنها توقفت عندما حولت وجهي عنها أنظر إلى المحطة التي وصلها الترام. سكتت قليلا و هي تنظر إلي تارة و إلى المحطة التي توقف فيها الترام تارة أخرى .نظرت إليها مبتسما كما الأول رافعا حاجبي ، و رافعا خافضا رأسي . أشارت ببنانها إلى المحطة وهي ناظرة إلي . أغمضت عيني مبتسما و فتحتهما فما كان منها إلا أن ابتسمت و قد اغرورقت عيناها و ارتفع صدرها بأنفاس متسارعة و متتابعة . قبضت على يديها لتتمالك نفسها فتمالكتها و بعد هنيهة بدأت في التكلم :

ـ ليس مهما كيف تعرفت عليه المهم أنه أحبني و احببته حبا شديدا و تواعدنا على الزواج . ولما هم بالقدوم لخطبتي أخبرني انه و قع له طاريء .لقد أصيب بمرض ...أصيب ...

انهارت هذه المرة دون ان تتمكن يدي من منعها من ذلك ولم أحاول . أستخرجت من جيب سترتي منديلا ورقيا و حيدا حمدت الله أنه قضى حاجتها في مسح دموعها و...
بعد لحظات استعادت هدوءها لكنها ترد دت في الإفصاح عن ماهية المرض الذي أصابه .حاولت مساعدتها بسرد لائحة من الأمراض المعروفة فكانت تنفي . تركز اهتمامي على احتمال إصابته ببعض الأمراض الشخصية جدا و عوض الخوض في ذلك سالتها :


ـ هل ذلك المرض يمنعه من الزواج ؟

ـ نعم 


ـ هل ذلك المرض يمنعه من الإنجاب ؟


ـ نعم


اطرقت مفكرا في المشكل متخيلا مدى الألم الذي تتحمله و يتحمله ذلك الرجل . بل هو ألمان : ألم الإصابة و ألم المعذبة بسببه . فقلت :


ـ إنه يتعذب لأجلك و لأجله أليس كذلك؟


أطرقت المسكينة

و قد عاودتها حالة البكاء من جديد . و لعلها كانت أشد و أقوى لأنها فجرت فيها كل الكوامن .




لقد و جدت ليس من تفضي إليه بأسرارها فقط و لكن و جدت من يفهمها ويحس بها و هذا يعز وجوده في هذه الأيام . قد تجد من الناس يستمع إليك و قد تجد من يخفي سرك ، أما من يفهمك و يحس بك فقليل ما هم .

شعرت أنني كنت قاسيا دون أن أقصد فطأطأت رأسي خجلا.

 بعد مرور عاصفة الدموع عدت للموضوع مرة أخرى ...

ـ آآآآآسف ؟

ـ لا عليك...إنك لم تقصد أعرف ذلك ...

تنهدت و أردفت  


 ـ أنا أحس به و لكن ما باليد حيلة . تصور لقد حدث ما حدث قبيل أيام من الخطبة .

ـ هل تحبينه ؟

نظرت إلي كأن لسان حالها يقول :و هل هذا سؤال يا أستاذ ؟أنا كل حديثي عنه منذ أن التقيت بك ؟ ألا يكفي لتفهم عاطفتي نحوه ؟

الحقيقة انني فهمت ما كان يدور في ذهنها و لكن هدفي من السؤال هو الإنتقال إلى مستوى آخر من النقاش .

ـ أعرف ذلك ،و لكن أقصد هل يمكنك انتظاره ؟

ـ نعم يمكنني ذلك فليس من اللائق التخلي عنه في هذه الظروف ،لا يمكن ...

ـ أقول لك ؟ إن كان يحبك فعلا ،عليه أن لا يتركك تضيعين الفرص المتاحة .فأنت شابة مليحة لن يتأخر الخطاب عنك كثيرا .

ـ لا ،لا لا يمكني التخلي عنه بعد و قوع الأزمة . حتى و إن قرر ذلك .بل لقد قرر ذلك لكني رفضت.

ـ اسمعي إن الزواج لا يـُبنى على الرحمة و الشفقة و العطف . المشكل ليس في التخلي او عدم التخلي عنه المشكل في حديثنا هو سلامة الموقف . افرضي أنه جاء إلى أهلك و خطبك ثم تبين لك أمر آخر، ألن تراجعي نفسك ؟ .إن من حق كل طرف ان يتراجع لأن الخطبة وعد بالزواج و ليس زواجا . إن كان ماتقولينه صوابا فلن تفسخ خطبة و لن يتراجع طرف أبدا .


من المهم استحضار الجوانب الإنسانية في علاقاتنا و لكن في حدود نسبية كما تعلمين و لا داعي للمغامرة . لا تورطي نفسك في احداث لم تصنعيها .لا تضخمي الأحداث بالشكل الذي يخلق فيك عقدة ذنب . إن الزواج مؤسسة عتيدة لا تبنى على قضايا القلب فقط ، بل أيضا على منطق العقل .إن مقتضيات العطف و الشفقة تزول بزوال أسبابها كما هو معروف .عواطف الشفقة و العطف لن تقوى وحدها على مواجهة الهزات و الرجات التي تعصف بالحياة الزوجية من حين لأخر . كلا بل قد تساهم في القضاء عليها . اسألي المتزوجين ممن سبقك. لا أقول إن تلك العواطف لا مكان لها في الحياة الزوجية.  لا، و لكن في الحدود التي لا تؤِدي إلى المفسدة . مثلها مثل الحب . إنها وصفات مضبوطة لكيمياء حياة زوجية سعيدة .



ظلت صامتة طول مدة كلامي .فأردفتُ :


ـ إننا في بعض الأحيان نتورط ـ ليس في علاقات حقيقية ـ ولكن في أحاسيس غير صحيحة و نحن نربط العلاقات بالآخر .




هناك إذن علاقات و عواطف في الموضوع فلا ينبغي الخلط بينهما . المشكل أننا لا نلبث في الغالب أن نخلط استنتاجاتنا تجاه المواقف بقرارات حول العواطف ، كما قد يحدث بين الطبيب و المريضة أو بين الأستاذ و الطالبة و بين الرؤوس و مرؤوسته . فالإحساس بالآخر و السؤال عنه و حمل المودة و الحب له وإظهار ذلك له  قد يصنع لدى الآخر إحساسا خادعا بالحب (أقصد الحب الذي قد يفضي إلى ربط علاقة قريبة ربما قد تفضي إلى الزواج ) فكثيرا ما تتحول المودة إلى حب و الإعجاب إلى حب ،  و من ثم إلى عشق .فالحدود الفاصلة موجودة بينها طبعا لكنا رفيعة. وهكذا تتحول استنتاجاتنا و نحن في مجال العلاقات إلى قرارات في مجال العواطف . فيحب الطبيب المريضة أو العكس و الأستاذ الطالبة أو العكس ... المهم أننا نضع أنفسنا بأيدينا في المتاهة ، معتقدين أن عمق علاقتنا دليلعلى صدق مشاعرنا. و قد يُحب كلانا الآخر من نفس المنطلق الخاطيء ( ليتبين الخلل بعد ذلك و قد ارتبطنا و ربما نتج عن الزواج "الخطأ" أطفال .و ياما نشأت أسر من هذا المنطلق ).




و المشكل أنه في حال و جود بعض الشكوك فإننا نحشد ما يمكن من المؤيدات التي تسند ذلك الموقف .بل إننا خوفا من ألم الإستيقاظ على الحقيقة المرة فإننا نلجأ إلى التخدير ، أي أننا نصطنع العيش السليم و السعادة الكاملة و نحن غير ذلك .



استمعي لأحلام نوم كل منا،







أنظري إلى ملابسنا و ألوان ملابسنا







تأملي نوعيات أكلنا و كميات أكلنا

أحضري أفراحنا و أعراسنا


تأملي مقتنياتنا ...


إنها تنبيء عن هروب إلى الأمام في كثير من الأحيان ، إنها تكاد تكون سلوكات مقنعة برانية تخفي و راءها عواطف و مشاعر و أحاسيس جوانية غير سليمة ، أو لنقل غير مدروسة .






و صل الترام إلى محطة نهاية الخط و في القلب بقية من الموضوع. نزلنا إلى الرصيف و انتظرت أي كلام منها و قبل أن تقول كلمة بادرتها بسؤال :


ـ هل الألفة هي الحب ؟ و هل الكلام المعسول من الطرفين هو التفاهم ؟ و هل الكلمات المنمقة و الأبيات المرتجلة أو المنقولة برهان الحب ؟




هل تعرفين كيف تميزين بيت الحب و الشفقة ؟


. سأتركك تجيبين على كل الأسئلة مع نفسك و لكن سأساعدك على العثور على جواب السؤال الأخير.

إن لكل فتاة مواصفات لفتى أحلامها . خذي ورقة وقلما وعددي تلك الصفات بدون كرم ثم قارنيها بصفات من هو متوفر لديك .إن وجدت النتيجة مقبولة فاحسمي أمرك بالقبول أو الرفض و إن وجدت غير ذلك فاحسمي أمرك بالرفض دون تأنيب من الضمير و لن تندمي . و لا تكوني كمن يفرح دون أن يدري لماذا و لا كالذي يتزوج دون أن يفهم ما هو بصدده . لا تكوني كالأطرش في الزفة كما يقال .

 و قبل أن أنهي كلامي تذكرت شيئا طريفا . ففاجأتها قائلا :


ـ ألا زلت تحبين شكلاتة الكلاكسي .


و بدون أن تفهم العلاقة بموضوع الحديث قالت نعم وضحكت لأول مرة منذ أن التقينا


ـ إنك تحبين شكلاتة الكلاكسي لأنها تعجبك دون غيرها ، و لأنها تلبي كل شروطك، هذا قرارك ؟ فأنت لا تبغين عنها بديلا كما عهدتك. أليس كذلك ؟ قالت نعم و هي تقهقه.


و في هذه اللحظة استخرجت من جيب محفظتي قطعة كلاكسى . مدت يدها كطفلة صغيرة لتأخذها و قبل أن تظفر بها قلت :


ـ ليكن موقفك ممن تحدثنا عنه كموقفك من شكلاتة الكلاكسي :اختاري بحرية و ارفضي بحرية ما دامت هناك إمكانية .وليكن شعارك دوما :الكلاكسي اختياري.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق