الأحد، 26 مايو 2013

زبالة خيمي أو آخر الأحلام

                                                         تنويه خاص                                 
سر الحياة هي  مجموعة من الخواطر و القصص على صيغ مختلفة تلتقي بمراحل معينة من حياتي في الطفولة و الشباب و الكهولة .هي ليست مذكرات و لا سيرة ذاتية ، و إنما وقفات غير مرتبة كرونولوجيا استثارتها بعض تأملاتي  في حياتي و حياة الناس ممن أعرف و ممن لا أعرف.                                        

زبالة خيمي أو  آخر الأحلام  
                

يقول علماء النفس  إن اللعب بالنسبة للطفل عمل  غريزي .لهذا تجده لا ينتهي من اللعب  و إنما ينتهي من نوع ليتحول إلى نوع آخر من أنواع اللعب .و لا ينتهي من اللعب تماما إلا عندما يتعب و ينام .
ما علاقة هذه المقدمة بزبالة خيمي ؟
زبالة خيمي اسم يعرف معناه من عاش معي في حي السباته بمدينة مكناس المغربية في الخمسينات و الستينات  .
زبالة خيمي بالنسبة لأطفال جيلي المحرومين ،اسم أطلقه من أطلقه دون أن يفكرـ ربما ـ في أبعاده في نفوسنا التي امتزج فيها الحرمان و الحلم .
زبالة خيمي كان اسما و رمزا في آن واحد لجنة الأطفال في الأرض .
كنت أعرف من خلال بعض قراءاتي و أنا طفل و من أساتذتي الكرام في بعض مستطرداتهم خلال دروس التربية الإسلامية ، أن الحيوانات المفترسة ستتحول آخر الزمان إلى حيوانات أليفة و كنت أتخيل كيف سيصبح الأسد الذي كنت أراه في حديقة بانيو بطريق الرباط  أو الحبول بوسط المدينة في وداعة الكلبة  "لايكة " التي فتنتنا قبل أن تضيع أو صبر كلبنا  "اللابوني " الأسود البني الذي لا أذكر مصيره هو الآخر .كنت أتخيل لو أصبح أسد الأطلس ذاك أليفا  كما كانت لايكا و اللابوني،كانت متعة لا تضاهى .ما لم أكن أتخيله هو و جود مكان ترمى به اللعب و غيرها من الطيبات اي مطرحا سماه من سماه "زبالة خيمي" .
زبالة خيمي هي إذن مطرح . و لكن بما أننا نعيش بين الأزبال فلامانع من وجود زبالة للألعاب و الطيبات .
مابقي غامضا لدي إلى اليوم هو كلمة خيمي هل هي اسم شخص ما كان يحرس الزبالة و يملك مفاتيحها ،أو هي كلمة منحوتة من كلمات أخرى.ليتني أتمكن يوما ما من التواصل مع  جارنا الشاب الذي كان يحكي لنا عن مكنونات زبالة خيمي .لتني أستطيع لقيا الساحر الذي كان يسحرنا بكلامه الشيق عن زبالة خيمي و يؤملنا بزيارة قريبة لنا وباصطحابنا كلنا نحن الأطفال المتجمعين حوله و المشدوهين لكلماته المتتبعين لقسمات  وجهه و إشارات يديه . إشارات لم أستطع من خلالها تحديد الإتجاه الحقيقي  الذي توجد به زبالة خيمي .لكن كان لدي عزم كبير على معرفة مكانها عاجلا أو آجلا .
فكوننا جيران للساحر الشاب كان يبعث في أمل اصطحابي و أخوي إلى هنا في إحدى صبحيات الجمعة الباكرة يوم كانت الجمعة عطلة مدرسية هي و الأحد . الأمل الثاني كان اجتهادي في تفسير إشارات الشاب الساحر للإتجاهات الأربعة . قسمات وجهه كنت أتحاشاها و لم أقو على تتبعها لأنها كانت طعن جرح تعسر الوصول إلى جنتي و تشوش علي في عملية استنباط الإتجاه الحقيقي لمكان وجود زبالة خيمي  من إشارات يديه.
 و أذكر كيف كنت اتعامل مع الموضوع بحيث أنني  استبعدت الشرق لأنه لم يكن يشير إليه إلا نادرا و استبعدت الغرب لأن فيه زبالتي مولاي ملايانا الكبيرة و الصغيرة و قد قتلتهما نبشا يوم كنا نبحث عن قطع النحاس  غيرها مما كنا نبيعه بالكيلو للمرحوم بونواقش بجوطية باب الجديد . استبعدت الغرب إذن وبقي الشمال و الجنوب .كان  شمال المدينة منطقة جذب لي دائما و إلى يومنا هذا رغم أختلاف مسوغات اليوم عن أختها بالأمس القريب .فحمرية و هي الإسم المشهور للمدينة الجديدة بشمال مكناس كانت كما قلت منطقة جذب لي و أنا أتخيل زبالة خيمي و ذلك لأعتبارات عدة منها كونها تتوافق مع إشارات الشاب الساحر و كونها منطقة نظيفة و محترمة جدا و كونها موطن و مسكن عدد من المعمرين الفرنسيين الميسورين سواء منهم النصارى الذين دخلوا مع الإستعمار الفرنسي أو اليهود الذين جاؤوا كمعمرين أو تركوا إخوتهم الفقراء بالملاح( أو حارة اليهود) البالي أو الجديد ليتماهوا ويختلطوا بالنصارى الفرنسيين لغرض في نفس يعقوب.
 حمرية أو المدينة الجديدة جمعت كل أولئك و رجحت بذلك كفة و جود زبالة خيمي هناك .و لكن كان هناك مشكل و هو كيف يمكن أن تجمع حمرية بين جنتين : جنة خيمي و جنة الحلويات و الألعاب و.. . لأول مرة أستعمل جنة خيمي عوض زبالة خيمي .ليس هنا تناقض أبدا لأنني بما اعرفه عن حمرية بعماراتها الشاهقة و سكانها الأثرياء المعرفين بملابسهم الأوربية و عاداتهم الإحتفالية و البهرجة التي تظهر بها في أيام عيد الميلاد ، و ما كنت أسمع عنا من محيطي كل ذلك لم يكن ليتوافق مع كلمة زبالة بل يناقضها .كيف لا و كنت أسمع و أرى بنفسي كيف أن حمرية كانت نموذجا مصغرا لمدينة فرنسية متقدمة بالمغرب .الناس يتحدثون بالفرنسية و يلبسون الزي الفرنسي الذي  تعبق منه العطور الغالية .شعور رجالهم مرجلة بالبرييانتي الأزرق و أسنانهم نظيفة و مستقيمة ليست كأسنانا و شعورنا المشعثة .كيف لا تكون زبالة خيمي أو جنة خيمي بين ظهرانيهم ؟كيف لا تكون بينهم و أنا ألاحظ أثر النعمة على كل من عمل معهم أو اقترب منهم . لن أنسى التعويضات التي كان يحصل علها عمال شركة السكك الحديدية أو ما كان يطلق عليه وفي وقتنا عمال طانجي فاس . إن كنت أنسى فلن أنسى اللعب التي كان يحصل عليها أترابنا من أولاد عمال شركة طانجي فاس بمناسبة أعياد السنة الملادية الجديدة . لم يعد يهمن

ي اليوم نوعية الألعاب تلك و لا عددها و لكن درجة الحرمان التي كنا نعيشها و التي جعلت ذلك الشاب يخترع لنا و له قبلنا  ميتا أي خرافة أسماها: زبالة خيمي .

تنويه: الغرض من الفاصل صوت الموسيقى و ليس المشاهد .   
                            
... معذرة لقرائي  خاصة من جيلي ،فلقد مارست على نفسي أقسى درجات الضبط  لكي لا أبكي و أنا أكتب هذا المقطع لكني اضطررت للتوقف عن الكتابة لدقائق سمحت بها لنفسي كي ألبي رغبة جارفة في البكاء  الحار الجاد . فاسترجاعي لتلك الذكريات أثار شجون شعور قديم بالحرمان.ذاك الذي كنا نعيشه، حرمان كنا نهرب من ألمه باللجوء إلى الطبيعة نشغل أنفسنا باكتشاف أسرارها و خباياها. أياما كاملة و شهورا كاملة و سنوات كاملة عرفنا خلالها معنى الفصول الأربعة قبل أن نعرف المدرسة .و تعرفنا خلالها على أصناف الطيور النبات  أشكالها و أوقات ولادتها و موتها قبل أن ندرس الطبيعيات .كانت مددا  بعيدة عرفنا فيها أصناف الألعاب كرة القدم و العدو الريفي و ديني عراب و القفز على الأسوار و من الأسوار و تسلق الأسوار. كنا نهرب من عالم الظلم الذي كنا نشعر به دون أن ندركه بصناعة لعبنا و ابتكارها من الأسلاك الحديدية و النحاسية و علب المصبرات. كنا نصنع كل شيء حتى الحلوى ،يكفي أن يحضر الأتراب سكرا و عود ثقاب و الباقي كله في الطبيعة الورق أي الكاغد و الماء من السقاية و ثلاثة أثافي توضع عليها علبة مصبرات بها ماء السقاية و السكر و ننتظر وبأيدينا كؤوس الورق المخروطية بعود  في القلب ولا نلبث أن تصب فيها السهارة الحلوة . ناهيك عن القنبول و صناعة المظلات و الأوراق الطائرة ...  كنا نلعب بكل شيء حتى الطين الذي كان والدينا يوصوننا بتجنبه حتى لا نوسخ ألبستنا. الطين الذي كنا نقيم به  الأبنية التي سكناها بأحلامنا والأفران التي كنا نحميها بحماستنا قبل النار، والتي نصنع بها خبزا طينيا كنا نراه حقيقيا في أعيننا الواسعة الحالمة خبزا خبزا، ياما شممنا منه رائحة الخبز الحقيقي و قد غطتنا سحابة ما بعد الزوال و فجوة وقت وجبة الغذاء.
 كنا نهرب من عالم الظلم ذاك بدفع مستمر لحدود طاقتنا و قدراتنا على التحمل و الإبتكار في عالمنا الصغير.
   ما أثار شجوني ليس شعوري اليوم بظلم الأمس و لكن كوننا حتى و نحن نحلم فإننا لم نستطع استحضار كرمتنا البشرية :
كنا نحلم بزبالة ، أقول زبالة إسمها زبالة خيمي .


أعود لا ستنباطاتي الجادة في تحديد مكان زبالة خيمي .الشرق إذن غير وارد  و الغرب ميؤوس منه . كنت أتحدث عن الشمال و عن حمرية  المدينة الجديدة الفاضلة المفضلة . كنت على وشك الإقتناع بها مكانا مناسبا لاحتوائها زبالة خيمي لكن شيئين منعاني من الفصل في ذلك . شيء يرجح ظني و آخر لا يرجحه . فأما مايرجح ظني فكون ما كنا نعرفه عن النصارى و ممن كان يشتغل في حمرية  أن هؤلاء أغنياء و أنهم يتخلصون من الأشياء القديمة و يقتنون دائما الجديد .و هذا يعني تلقائيا في ذهني أنهم يرمون بما يفيض عن حاجاتهم في زبالة خيمي  اللعب الأكل و الشرب الملابس الحلويات و الشوكولاتة و أنواع الجبن . لم تكن اللحوم تهمني لأنها غير مذكاة و قد تكون مختلطة بلحوم الخنزير. اللحوم لم تكن مهمة بالنسبة لي المأكولات و الشروبات مهمة و لكن ما كان ذا أهمية لدي هو اللعب .
زبالة خيمي فيها الأكل و الشرب و اللعب فيها ما لا عيني رأت و ما لا أذني سمعت و لا ما خطر على قلب صبي . هكذا كنت أرى زبالة خيمي و لقد صدق ظني أو كاد عندما رافقت والدي في يوم من الأيام إلي حمرية . كان ذلك اليوم نقلة حقيقية في حياتي .كنت كثيرا ما أرافق والدي إلى حمرية و من خلالها تعرفت على كثير من مرافقها الإدارية و مقاهيها .
 كنت أشعر بالرهبة و الغبطة و أنا في حمرية .الرهبة لأنني كنت أتهيب من الشرطة التي كانت متواجدة بكثرة هناك و التي كانت تتدخل لأعتقال أو إبعاد كل من رأت أنه لا يتناسب مع النسيج الإجتماعي الفريد لحمرية .لكن تلك الرهبة كانت تزول و أنا أشعر بالحضور القوي لوالدي هناك .فقد كان لباسه كلباسهم : بذلة و سروال في نفس اللون و حذاء لامع براق أفضل من أحذيتهم أقصد المستوطنين من سكان حمرية .كان حذاء أبي دائم اللمعان .  حضور أبي لم يكن مقتصرا على لباسه و لكن على شكله الخارجي .كان حليقا ممشط الشعر برائحة دهن البرييانتي المشهور الذي يبرز السواد الجميل لشعره .ازدان كل ذلك بمشيته الرزينة الثابتة التي ورثها من ماضيه العسكري مع الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية . كان أبي أنيقا جدا . كانت رهبتي تموت تماما و أنا أستمع إليه و أنظر إليه و هو يتكلم مع الفرنسيين بلغتهم . هذا عن الرهبة .أما عن الغبطة فقد كنت أشعر بالغبطة عندما أذهب إلى حمرية ـ الموطن المحتمل لزبالة خيمي ـ لأن الناس كان يتفاخرون باقتنائهم  من بوتيكات حمرية و دراستهم في مدارس حمرية و جلوسهم بمقاهي حمرية و أكلهم بوظة حمرية و خبز أو كومير و  بوتي بان   حمرية ... حمرية إذن مرجعية ثقافية و اجتماعية و اقتصادية لأهل مكناس . و لكونها كذلك في لاشعوري أنا أيضا فإني كنت أشعر بالغبطة  في نفسي عند زيارتها ، و الغبطة أو الغيرة و الحسد من أترابي عندما أحكي لهم عن مشاهداتي و مأكولاتي و مشروباتي مع أبي هناك .
 قلت سابقا أنني زرت حمرية مع والدي و قلت إن  ذلك اليوم كان نقلة حقيقية في حياتي و السبب أنه أخذني لأول مرة إلى جنة حقيقية للأطفال، جنة اسمها مونوبري ،

المركز التجاري المشهور الذي عاد بسلسلة متاجره اليوم إلى المغرب .مونوبري كان المرور بقربه و ليس دخوله مرجعية و امتيازا لمن هم خارج حمرية  و الإقتناء منه كان ميزة حتى لقاطني حمرية .دخولي لمونوبري بصحبة والدي كان لحظة فارقة في حياتي ليس لقيمته الإجتماعية و الإقتصادية ،فقد أدركت ذلك لاحقا .زيارتي لمونوبري في الستينات بحمرية مكناس كان لحظة فارقة بالنسبة لي لأنه كان المثال الحقيقي لما كنت أتخيله عن زبالة خيمي . الوفرة التي كانت تقدم بها البضاعة في الرفوف و الأروقة الواسعة و أنواع الحلويات  و الوفرة التي كانت تقدم بها . معذرة لا أجد كلمة وفرة تعبر عن إحساسي أنذاك لهذا سأتناول الموضوع بطرح تساؤل عميق  : تصوروا كيف يكون إحساس طفل الأثافي الصغير و المخروطات الورقية و هو يجد نفسه أمام صناديق زجاجية  لا رقيب عليها بعمق متر مليئة بأنواع الحلويات و الشوكولاطة  الملفوفة في  الأغلفة التي  لا تقل فتنة عن محتوياتها؟ تخيلوا طفلا استفاق في رواق اللعب : الأحصنة الدمى المسدسات البسة البوليس و العسكر و الدمى و الأحصنة و الحيوانات التي يخيل إليه من سحرها أنها تسعى .تخيلوا كيف وجد الدراجات و السيارات و الطائرات بما يحلم به من ألوان  رهن إشارته يلمسها أو يركبها كما شاء . كيف سيكون حاله و حول كل ذلك و معه شقراوات وسوداوات بيض ابتسامتهن تقول له:  هيت لك في تعبير رمزي عن  مفهوم السيلف سيرفيس الذي تعرفت عليه مبكرا هناك .
ما  رأيت في ذلك اليوم جعلني اتمثل ما يمكن أن تكون عليه زبالة خيمي التي يحكي لنا عنها جارنا الساحر . لكن رغم ذلك ظللت أشك في و جود زبالة خيمي في حمرية  و السبب في ذلك هو أن مونومارشي الذي أحيى حضوره ميتولوجيا زبالة خيمي و جسدها في ذهني هو نفسه الذى أبعدها عن احتمال وجودها في حمرية وسبب ذلك بالنسبة لعقلي الصغير الباحث ، أولا استحالة وجود جنتين في مكان واحد جنة مونومارشي و زبالة خيمي .و ثانيا  استحالة وصول جارنا الساحر إلى زبالة خيمي إن كانت بحمرية  و هو صاحب السحنة العليلة و الملابس الرثة و الشعر المشعث .فكل ذلك يجعله من المؤهلين للإعتقال أو الإبعاد من طرف الشرطة  فور اقترابه  من مداخل حمرية .و ثالثا دخولي لمونومارشي و وفرة كل المتطلبات و سهولة اقتنائها و إخراجها لم يفسر لي لماذا َو لمَ  لمْ   ُيظهر لنا جارنا الساحر في يوم من الأيام  شيئا مما يوجد في زبالة خيمي .
لم تكن خيبتي في عدم و جود زبالة خيمي بحمرية بأقل من خيبتي  في تسمية المكان الذي يشبه ما في ذاكرتي عن زبالة خيمي باسم مونوبري أو مانو بري كما مان متدولا في محيطي .  هيه هيه و كأنني كنت أنتظر أن يغيروا اسم مونو مارشي باسم زبالة خيمي ...
خلاصة الموضوع أن ما رجح ظنني في احتمال و جود زبالة خيمي في الشمال هو الذي أدى إلى عدم ترجيحه .
بقي الجنوب و هو موطن الأسرار بالنسبة لي . فقد كان جارنا الساحر يشير إليه أكثر من غيره . و أنت تنظر من المنطقة المسكونة بحي السباتة نحو الجنوب  لم يكن هنا مجال لوجود زبالة خيمي لأن المجال كله كان عبارة عن حقول قمح ومنابت زيتون و بينها ممرات بين حي السباتة و تواركة . كان ذلك الفضاء بكل مايحويه موطن لعبنا و حفرنا . كان مجالا لحروب حقيقية بالحجارة بين حيي السباته و تواركة  . فكل نبتة أو حجرة  أو ذرة تراب ستحدثك عن ألعابنا و قصصنا و عنفنا و عنفواننا و لن تحدثك عن شيء يسمى زبالة خيمي .
كانت الأرض تنحدر من دور السباتة المطلة على الحقول لترتفع تدريجيا من وسط المجال إلى أولى الدور بحي تواركة و كان الناظر من جهة السباتة يصطدم بصره بالسور الإسماعيلي العتيد  الذي يحجب الأفق . و يظل السؤال :هل زبالة خيمي وراء ذلك السور ؟
كان والدي يرحمه الله يهرب من  أذى الناس إلى سلام الطبيعة و من صعوبة الحياة اليومية إلى  بساطة الحياة الطبيعية . كان من الناس الذي يتأملون و يقرأون دروس الطبيعة   و أرادنا أن نكون كذلك . فمن أقدر من الطبيعة على التربية ؟ كان رغبته تلك فرصة لي لاستكشاف آخر موطن محتمل لزبالة خيمي .
مرت سنوات وسنوات ونحن مع أبي نصول و نجول خلف السور الإسماعيلي العظيم قبل معمل سيفسطا للأنسجة و مابعد سيفسطا وما بعد بعد سيفسطا من جهة تولال و آكوراي عبر معمل الخشب  و من جهة بوفكران  .
كنت أبحث عن زبالة خيمي
 و كان أبي يبحث عن الهناء ،
 كان زادنا البرتقال و الخبز الذي  نحمله بالتداول داخل الوعاء الصغير على أكتافنا.وكان زاد أبي الرضى .
لا أذكر أنني سألت أبي عن زبالة خيمي . فلقد كان الشخص المؤهل للإجابة  لقد كان يعرف كل شيء .
 هل خفت أن يعرف سري نحو السعادة ؟
هل خفت أن يسخر مني؟
 أظن أنني ظلمة الحرمان و ألمه كانت واقعي .و زبالة خيمي كانت حلمي المجنح  .و كنت أفضل لا شعوريا الإبقاء على آخر الأحلام .  

                    


الأحد، 12 مايو 2013

منديل و منديل أو الراحة المنسية


                منديل و منديل أو الراحة المنسية  
                  
ملاحظة بسيطة عبرت خاطري و أحس بها قلبي غاية الإحساس و غيرت مجرى صباحي على الأقل و أتمنى أن يمتد ذلك إلى يومي بأكمله.
فأثناء انطلاقي لعملي انتبهت إلى ضرورة تنظيف نظارتي مما علق بها من غبار المدينة منذ البارحة . وقعت عيني على المنديل الجديد الذي وضعته البارحة في علبة النظارات .حملت المنديل ومسحت به نظارتي و أنا في غاية السعادة .
 ما أحسست به قد يبدو لكم عاديا ،فكيف نتصور أن يدخل وجود منديل جديد نظيف السرور على القلب و يغير مجرى حياة إنسان ؟
الأمر في ظاهره يبدو كذلك و لكن الذي ينبغي الإلتفات إليه ليس المنديل و لكن ما يحمله وقوع ذلك في حياتي و السياق الذي تم فيه ذلك الحدث .
إن تراكم الوقائع المزعجة و توارد الأخبار السيئة قد يدفعنا في كثير من الأحيان إلى البحث عن منظر جميل يدخل السرور علينا أو التطلع إلى خبر سعيد يدخل البهجة إلى قلوبنا . أو الإنصات إلى موسيقى تزيل غبار المصائب عن قلوبنا. موسيقى واعدة بحد ث سعيد محتمل أو أنها مذكرة بماضي جميل أو شأن جميل.
ماذا ما حصل مع منديل النظارات ؟

المنديل القديم كان قد وصل إلى حالة من الإتساخ أصبحتُ معها أتساءل عندما أستعمله هل أنا أنظف النظارات  بالمنديل أو أنظف المنديل بالنظارات .قد أكون بالغت في الوصف و لكن ما ينبغي الإنتباه له هو أننا لا نتخذ المواقف المناسبة في بعض الأحيان بسبب الإهمال و لكن بسبب حسابات ذاتية داخلية قد تفضي إلى حالة غير مقبولة عقلا .
فعدم اهتمامي بتنظيف منديل النظارات مثلا كان مبعثه أنني أقضي اليوم كاملا في العمل ،و إن كان لي الوقت لتنظيفه و تجفيفه فليس لدي القدرة على تتبع الموضوع  إلى النهاية ،و بالتالى خوفي من ضياعه مع حاجتي إليه، و تصوري لعدم وجود قطعة ثوب مناسبة أخرى جاهزة في عين المكان ، كل ذلك جعلني أنتظر عودتي للبيت للقيام بذلك او تعويضه. لكن  في البيت هموم وأعمال و تكاليف تنسيني كل ذلك  وهكذا ...
أعود بعد هذا الإستطراد لأقول إن حالات  الرضى وعدم الرضى عن الذات و عن الآخر كثيرة في حياتنا. لكن خوفنا من الألم المحتمل  يخلق عندنا دائما القابلية ليس للتعاطي مع حالات عدم الرضى  تلك  فقط، و لكن  يجعلنا في انتظارها للأسف. و إذا وقعت يقول كل منا بطريقة مونولوكية  : هيه ... لقد كنت أنتظرها.
فوقوع المحظور لا نضعه في سياقه و لكن نعتبره مصدقا لحدسنا .و هنا  يحق لي أن أتساءل :ألا يوجد في حياتنا إلا حالات عدم الرضى ؟  حتما  لا، و إلا أين حالات الرضى يا ترى ؟لماذا لا ننظر للجانب الملآن من الكأس ؟لماذا نستبق الأحداث كأننا نبحث عن المنغصات ؟
هاته الحالات و ما شابهها هي التي تجعلنا مبرمجين على انتظار الأسوء  دوما . برمجة تجعلنا نستغرب أحيانا حدوث الأجمل أو لنقل السعيد في حياتنا .لكن الوعي بالآثار السلبية للبرمجة السلبية  هو الذي جعلتني اليوم أنظر لموضوع منديل النظارات نظرة غير عادية .  ألا يعتبر استبدالي منديلا بمنديل أمرا عاديا ؟ بلا و لكن السياق الذي وقع فيه الحدث يعتبر غير عادي بالنسبة لي قبل كتابة هذه السطور. و هذا من حسن حظي لأني بدأت مرحلة النظر إلى الجانب الملآن من الأحداث ومن  حياتي . بدأت أتعلم قراءة الأشياء المبعثرة حولي و الأحداث المبعثرة حولي .
بدأت أتعلم قراءة مائدة الطعام قبل و بعد الأكل و لا أقول كم كلفتني و لماذا كانت السلطة بملح زيادة و لكن أقول كنت موفقا في اختيار الطاطم الطازجة و الملح الزائد عوضني عن الملح الناقص في الخبز .بدأت أعي دعاء : الحمد لله الذي أطعمني و سقاني من غير حول مني و لا قوة.
أتأمل مائدة الإفطاربالمقهى مثلا و لا أقول لنفسي:كم كان فنجان القوة رديئا و لكن كم استمتعت بالخدمة و الوجه البشوش للنادل .

 وأنا أتأمل أجواء السفر و ما يعتريه من أحداث مزعجة أحيانا و أقول : اللهم يسر.
و عندما أهم بعمل ما يحتاج للرويةأتذكراعقلها و توكل.
وأضع سطرا عريضا تحت أخشوشنوا فإن النعيم لا يدوم عندما تعترضني إكراهات معيشية في بيتي أو عند مضيفي من الناس أو الأهل .
وأعوض لوعة فراق أحبة بأمل لقاء أحبة  ...                       
و هكذا حتى مع المنديل،  نظرت إلى المنديل القديم معتذرا، أما المنديل الجديد فاعترفت له بفضل مسح نفسيتي مما كان بها قبل مسح زجاج نظارتي . متمنيا ألا تكون مرحلة عابرة و إنما عبرة لي و درسا إيجابيا في نظرتي للحياة مستقبلا و تقديرا للراحة المنسية .   

الجمعة، 3 مايو 2013




ســـــــر الـــحـــيـــــاة (بدايات القصة السرمدية )

تنويه خاص

سر الحياة هي مجموعة من الخواطر و القصص على صيغ مختلفة تلتقي بمراحل معينة من حياتي في الطفولة و الشباب و الكهولة .هي ليست مذكرات و لا سيرة ذاتية ، و إنما وقفات غير مرتبة كرونولوجيا استثارتها بعض تأملاتي في حياتي و حياة الناس ممن أعرف و ممن لا أعرف.الحلقة الأولى كانت بعنوان : طفل من خيال .الحلقة الثانية بعنوان:

                        بدايات القصة السرمدية (1)

لما كنت صغيرا سنح لي قربي من والدي يرحمه الله بالتعرف و الإقتراب من كثير من المواضيع التي لم يـُتـح لغيري التعرف عليها عن قرب و في ذلك السن. مواضيع الحرب و السلم ، و الغلاء و الرخاء ، و الفلاحة و الصناعة و التعليم و أسباب التقدم و التأخر وسُبـُل التنمية ... و غيرها من مواضيع الحياة . لكني سأخصص سطور اليوم لمواضيع الحب و الكره بين الرجال و النساء ، و ذلك في جزئين.

لقد كان استماعي لكثير من الرجال يشكون من عدم تذوقهم للسعادة في حياتهم الزوجية مثار آهتمامي .لم أكن و أنا ابن الست سنوات و ما قبلها و ما بعدها لأفهم كلامهم. و لكن مع تكرار المواقف اصبحت أشعر بمشكلاتهم و إن لم أفهمها. سحناتهم و قسمات وجوههم و تكرار أحاديثهم المريرة أشعرتني مبكرا بالخيبات التي كانت تستولي على هؤلاء الرجال إلى الحد الذي جعلهم يبدون أمامي أقزاما مقهورين خاضعين مستسلمين لأقدارهم ولنقل لزوجاتهم.

لما تشربت مرارتهم و عشت خيباتهم معهم ، غمرتني أسئلة بديهية ليس عن الأ سباب الكامنة وراء ما يعانونه بل عن أسباب تحملهم كل ذلك . بمعنى آخر ظللت لفترة طويلة أتساءل بمونولوجية مؤرقة و طفولة ساذجة:

كيف يعانون ما يعانون و هم الأشداء ، الأقوياء..أعني رجـــــــال؟

كيف لايــُــنهون مشاكلهم و هم يعرفون كل شيئ عن كل شيء ؟

أليسوا هم من يوجهوننا و يحلون كل مشاكلنا و كل المشاكل ؟ فلماذا لا يحلون مشاكلهم ؟ بالنسبة إلي كان الرجال لا يحلون المشاكل فقط بل يتصدون لها قبل أن تقع .الرجال عجيبون...

لكن...

كيف غُــُـلبوا و هم الغا لبون ؟

كيف لم يتمكنوا بهاماتهم الطويلة و أصواتهم الجـَهـْوَريـة من خلع قلوب من يعذبهم من تلكم النساء الغــــالبـــات ؟ أو برامــــــــل البارود كما كنت أسمع كثيرا...

كيف قــُهروا ممن يقهُره فأر... مجرد فأر ... مجرد فأر؟ كيف؟

احتكاكي بأولائك الرجال المقهورين جعلني اعرف لاحقا ان حالتهم تلك هي ما يعرف بالشقاء في الحياة الزوجية . و أن ما كانوا يبحثون عنه هو السعادة في الحياة الزوجية...

و تلك قصة أخرى.
يُتبع تحت عنوان : زبالة خيمي أو جنة الأطفال
 

الخميس، 2 مايو 2013

سر الحياة طفل من خيال




                                          


سر الـــحـــيـــــاة


تنويه خاص                                   
سر الحياة هي  مجموعة من الخواطر و القصص على صيغ مختلفة تلتقي بمراحل معينة من حياتي في الطفولة و الشباب و الكهولة .هي ليست مذكرات و لا سيرة ذاتية ، و إنما وقفات غير مرتبة كرونولوجيا استثارتها بعض تأملاتي  في حياتي و حياة الناس ممن أعرف و ممن لا أعرف.الحلقة الأولى  بعنوان : طفل من خيال .                                                                         




طفل من خيال


هي الحياة تاتي كما تأتي ...


ليس كما تريد هي لأنها لا تريد ولن تريد...


الحياة زمن لا كينونة له. فكيف تكون الإرادة لمن لا كينونة له ؟


كنت و لازلت أقول إن للحياة حقيقة شرحتها لنا الأديان و بعض الناس يقضون العمر في محاولات تعرفها و لكن للأسف كثير من الناس لا يعرفون حقيقة الحياة إلا عند الموت. بل إنهم مع الموت سيعـــــلمون تلك الحقيقة . فالناس نيام و إذا ماتوا استيقظوا . والفرق واضح بين " المعرفة " و" العلم" .لكن كيفما كان الحال،فمع وقوع الموت لا يفـرُق أن يعرف أو يعلم الإنسان سر الحياة في تلك فكلاهما سَـيّان . فهو لن ينتفع بتلك الحقيقة في ذاته . لهذا تراه يمضي إلى حيث يمضي الناس جميعا لينال جزاءه وفقا لما عاشه. فحياته بعد حياته موافقة لما كانت حياته قبل مماته .


لما كنت صبيا لم تكن حياتي شاغلي لأنها كانت هبة و عطاء قبليا لم أختره لأكون واعيا به .لهذا لم تشغلني حياتي و إن شغلتني فلم يكن ذلك بإرادتي. ما كان يشغلني مما يشغلني من الحياة هو حياة الآخرين: أشياء الكبار و أفكار الكبار و هموم الكبار آمال الكبار و لذات الكبار و أفراح الكبار و أسفار الكبار . وقوفهم و جلوسهم و نومهم و طريقة أكلهم و شربهم. نظراتي أسئلة سرمدية وحياتهم أسئلة بدون أجوبة شافية . لكن مع ذلك كنت أحاول فهم تلك الأوضاع و التصرفات من منطلق طفولي بسيط يعتمد ــ بشكل فطري غير واع ــ على القياس على الذات ، والإسقاط على الذات . فكنت كما أسترجع اليوم، أوفق بتصوري الطفولي في فهم وتضميد ما قد يعتري نفسي من آثار و جراح. فالجوع له علاقة مثلا بفراغ البطن. الإنسان يأكل ليشبع و يشبع ليعيش و نفس الشيء بالنسبة للعطش و النوم ...وبالمناسبة لم أفهم إلى اليوم لماذا كانت طريقة مضغ الإنسان الطعام تثير في نفسي الضحك .نعم طريقة مضغ الطعام كانت تثير في نفسي الضحك. نعم... هكذا. لعل ذلك مرجعه استحضار أو مطابقة واعية/غير واعية لصورة الإنسان تلك و طريقة أرانبنا ـ التي كان أبي يربيها في البيت ـ في مضغ الطعام أو طريقة أكل الكبش التي تلفت انتباهي كل سنة قبيل يوم عيد الأضحى.


طريقة لم أقصد فيها يوما مشابهة الإنسان بالحيوان كلا بل استحضار طفولي لطريقة أكل الإنسان كقاسم مشترك بينه و بين الحيوان .(مارست رقابة ذاتية صارمة في هذه الفقرة ؟؟؟)


أما الأسفار فكان يقوم بها الناس للتمتع بالركوب و قطع المسافات بدون جهد أو تعب كما كنت أفعل على قصبتي و على الجانطة أو الدورالفولاذي الذي استخرجه من عجلة السيارة المطاطي بعد حرقه ،أو عندما أركب صهوة أحلام اليقظة التي كانت تركبني بدورها دراجة خيالية تقودننى الى حيث اريد مما بلغه خيالي في السماء و الأرض .


و بمناسبة الحديث عن السماء كنت اجد راحتي على السحب الممددة في السماء لا أقصد السحب الداكنة التي تحجب السماء كلية فتلك كانت تخيفني وتمنعني من رؤية بيتي و أبي و أمي و اخوتي و أصدقائي و مراتعي. كنت أحب السحب الصافية المبددة على وجه السماء الازرق البهيج كنت أتخلص من أصحابي لأتمدد على العشب البريء وعلى يدي وفي فمي روائح البرتقال الشتوي والمخصص للعصير سواء منه ذاك الأصيل ذي اللون البرتقالي الصافي أو ذاك الملقم بالرمان و المغرق أو المشرب او المجدول بحمرة رُمانية داكنة أو خفيفة أحيانا .أتمدد على الأرض مؤخرة رأسي مدفونة في العشب ووجهي نحو السماء. عيناي على أصناف السحب البيضاء الثلجية فهي مركبي الوثير المتعدد " الماركات" مركبٌ كنت متيقنا انه لن يصلح للكبار . فلن تقوى تلك السحب الضعيفة إلا على حملي ، أما الكبار فلا.


لن تقوى تلك السحب اللينة على حمل الكبار بقاماتهم الممتدة و عظامهم الضخمة.


لن تقوى تلك السحب العذراء على حمل كره الكبار و عدوانية الكبار و أطماع الكبار و خبثهم ليس كل الكبار و لكن بعضهم .


لن تقوى تلك السحب التي في وزن الأحلام على حمل هموم الكبار و آمال الكبار و آلام الكبار.


لن تقوى تلك السحب المغموسة في إدام الخيال أن تحمل إلا أطفالا من خيال مثلي.





                                                  
      يــُــتــــــبع بعنوان:  بدايات القصة السرمدية (1)
 

الأربعاء، 1 مايو 2013

لا إله إلا الله


                                                        كلام للكلوم 03
                                  
 كلام للكلوم* …كلام ليس كالكلام …كلام الشوط الاكبر لرحلة الانسان …انحناءات حروف  لاحتواء  ألم  الروح  و  جراحات النفس .

*كُلوم…جمع : كلم أي : جُرح

                                                             


الكلاكسي اختياري


الكلاكسي اختياري



مرت مدة طويلة على آخر لقاء بها حين وجدتني جالسا قربها في الترام . بهرتني بشكلها و قد امتلأت أنوثة و رقة لا تكاد تخطؤها العين . إنا تذكرني بكبرى بناتي .


ـ هل تزوجت ؟


ـ لا ليس بعد


ـ هل أنت مخطوبة ؟


ـ لا ليس بعد


توقفت أسئلتي خوفا من سماع " لا " ثالثة و أشحت بوجهي نحو الفضاء الذي أتاحه لي الترام و هو يمر على قنطرة الحسن
الثاني على نهر أبي رقراق و الرابطة بين مدينة سلا و مدينة الرباط العاصمة المغربية .





الحقيقة أني كنت أتظاهر بالنظر إلى انسياب النهر في البحر و اختلاط الأُُجاج بالفـُرات .اختلاطا يطابق اختلاط الأفكار في ذهني حول ما سمعته قبل لحظات من الفتاة .


ترددت كثيرا قبل معاودة الكلام . لكني نظرت إلى الساعة و حسبت خمسة عشر دقيقة قبل وصولي الى مقصدي . و عندها سألتها:

ـ لم أفهم كلامك . أخبرتني في آخر مكالمة بيننا منذ أشهر أنك على وشك الإرتباط وأكدت على ضرورة حضوري في الخطوبة القريبة و...


قاطعتني بأدبها المعروف و نظرت إلى ساعتها هنيهة . و انطلقت في حديث مركز بل في بوح رقيق شفاف . استمرت لدقائق اعتقدت أنها ساعات بسبب كثرة المعلومات و الآهات التي تخللت عرض المعلومات. آهات تنم عن ضيقها في القدرة على اتخاذ قرار في مُـلماتها ، و حيرتها في صواب القرار الذي قد تصل إليه في لحظة من اللحظات .


كانت تتحدث بحرقة عن حالها و عن موقف أهلها من الموضوع.فقد أصبحت كما أخبرتني عصبية المزاج إلى الحد الذي جعلها لا تتحمل ليس الآخرين بل نفسها . أكدت لي أن "الآخرين " في لحظة من اللحظات شمل أسرتها الصغيرة أيضا .


لم أنتظر سماع ما سمعت منها .و لم أكن أتخيل أنها وصلت إلى ما وصلت إليه . لم أهتم بخواطري لأنني كنت أنتظر منها معلومة واحدة و هي : لماذا لم يتقدم لخطبتها ؟


لم أترد في طرح السؤال عليها .لكن ما ان وقع في أذنيها حتى نظرت إلي نظرة تعجب كأنها إما أنها لم تكن تنتظر ذلك السؤال، أو أنها تعجبت كيف فاتها أن تشير إلى المشكل في نهاية حديثها الأول . نظرت إلي دون أن تنطق بكلمة .نظرت إليها كذلك رافعا حاجبي كأنني أقول لها: هذا ما حدث ؟ استمررت في النظر إليها مبتسما  معلنا بذلك استعدادي لسماع المزيد . سكتت قليلا ثم استعادت زمام المبادرة لكنها توقفت عندما حولت وجهي عنها أنظر إلى المحطة التي وصلها الترام. سكتت قليلا و هي تنظر إلي تارة و إلى المحطة التي توقف فيها الترام تارة أخرى .نظرت إليها مبتسما كما الأول رافعا حاجبي ، و رافعا خافضا رأسي . أشارت ببنانها إلى المحطة وهي ناظرة إلي . أغمضت عيني مبتسما و فتحتهما فما كان منها إلا أن ابتسمت و قد اغرورقت عيناها و ارتفع صدرها بأنفاس متسارعة و متتابعة . قبضت على يديها لتتمالك نفسها فتمالكتها و بعد هنيهة بدأت في التكلم :

ـ ليس مهما كيف تعرفت عليه المهم أنه أحبني و احببته حبا شديدا و تواعدنا على الزواج . ولما هم بالقدوم لخطبتي أخبرني انه و قع له طاريء .لقد أصيب بمرض ...أصيب ...

انهارت هذه المرة دون ان تتمكن يدي من منعها من ذلك ولم أحاول . أستخرجت من جيب سترتي منديلا ورقيا و حيدا حمدت الله أنه قضى حاجتها في مسح دموعها و...
بعد لحظات استعادت هدوءها لكنها ترد دت في الإفصاح عن ماهية المرض الذي أصابه .حاولت مساعدتها بسرد لائحة من الأمراض المعروفة فكانت تنفي . تركز اهتمامي على احتمال إصابته ببعض الأمراض الشخصية جدا و عوض الخوض في ذلك سالتها :


ـ هل ذلك المرض يمنعه من الزواج ؟

ـ نعم 


ـ هل ذلك المرض يمنعه من الإنجاب ؟


ـ نعم


اطرقت مفكرا في المشكل متخيلا مدى الألم الذي تتحمله و يتحمله ذلك الرجل . بل هو ألمان : ألم الإصابة و ألم المعذبة بسببه . فقلت :


ـ إنه يتعذب لأجلك و لأجله أليس كذلك؟


أطرقت المسكينة

و قد عاودتها حالة البكاء من جديد . و لعلها كانت أشد و أقوى لأنها فجرت فيها كل الكوامن .




لقد و جدت ليس من تفضي إليه بأسرارها فقط و لكن و جدت من يفهمها ويحس بها و هذا يعز وجوده في هذه الأيام . قد تجد من الناس يستمع إليك و قد تجد من يخفي سرك ، أما من يفهمك و يحس بك فقليل ما هم .

شعرت أنني كنت قاسيا دون أن أقصد فطأطأت رأسي خجلا.

 بعد مرور عاصفة الدموع عدت للموضوع مرة أخرى ...

ـ آآآآآسف ؟

ـ لا عليك...إنك لم تقصد أعرف ذلك ...

تنهدت و أردفت  


 ـ أنا أحس به و لكن ما باليد حيلة . تصور لقد حدث ما حدث قبيل أيام من الخطبة .

ـ هل تحبينه ؟

نظرت إلي كأن لسان حالها يقول :و هل هذا سؤال يا أستاذ ؟أنا كل حديثي عنه منذ أن التقيت بك ؟ ألا يكفي لتفهم عاطفتي نحوه ؟

الحقيقة انني فهمت ما كان يدور في ذهنها و لكن هدفي من السؤال هو الإنتقال إلى مستوى آخر من النقاش .

ـ أعرف ذلك ،و لكن أقصد هل يمكنك انتظاره ؟

ـ نعم يمكنني ذلك فليس من اللائق التخلي عنه في هذه الظروف ،لا يمكن ...

ـ أقول لك ؟ إن كان يحبك فعلا ،عليه أن لا يتركك تضيعين الفرص المتاحة .فأنت شابة مليحة لن يتأخر الخطاب عنك كثيرا .

ـ لا ،لا لا يمكني التخلي عنه بعد و قوع الأزمة . حتى و إن قرر ذلك .بل لقد قرر ذلك لكني رفضت.

ـ اسمعي إن الزواج لا يـُبنى على الرحمة و الشفقة و العطف . المشكل ليس في التخلي او عدم التخلي عنه المشكل في حديثنا هو سلامة الموقف . افرضي أنه جاء إلى أهلك و خطبك ثم تبين لك أمر آخر، ألن تراجعي نفسك ؟ .إن من حق كل طرف ان يتراجع لأن الخطبة وعد بالزواج و ليس زواجا . إن كان ماتقولينه صوابا فلن تفسخ خطبة و لن يتراجع طرف أبدا .


من المهم استحضار الجوانب الإنسانية في علاقاتنا و لكن في حدود نسبية كما تعلمين و لا داعي للمغامرة . لا تورطي نفسك في احداث لم تصنعيها .لا تضخمي الأحداث بالشكل الذي يخلق فيك عقدة ذنب . إن الزواج مؤسسة عتيدة لا تبنى على قضايا القلب فقط ، بل أيضا على منطق العقل .إن مقتضيات العطف و الشفقة تزول بزوال أسبابها كما هو معروف .عواطف الشفقة و العطف لن تقوى وحدها على مواجهة الهزات و الرجات التي تعصف بالحياة الزوجية من حين لأخر . كلا بل قد تساهم في القضاء عليها . اسألي المتزوجين ممن سبقك. لا أقول إن تلك العواطف لا مكان لها في الحياة الزوجية.  لا، و لكن في الحدود التي لا تؤِدي إلى المفسدة . مثلها مثل الحب . إنها وصفات مضبوطة لكيمياء حياة زوجية سعيدة .



ظلت صامتة طول مدة كلامي .فأردفتُ :


ـ إننا في بعض الأحيان نتورط ـ ليس في علاقات حقيقية ـ ولكن في أحاسيس غير صحيحة و نحن نربط العلاقات بالآخر .




هناك إذن علاقات و عواطف في الموضوع فلا ينبغي الخلط بينهما . المشكل أننا لا نلبث في الغالب أن نخلط استنتاجاتنا تجاه المواقف بقرارات حول العواطف ، كما قد يحدث بين الطبيب و المريضة أو بين الأستاذ و الطالبة و بين الرؤوس و مرؤوسته . فالإحساس بالآخر و السؤال عنه و حمل المودة و الحب له وإظهار ذلك له  قد يصنع لدى الآخر إحساسا خادعا بالحب (أقصد الحب الذي قد يفضي إلى ربط علاقة قريبة ربما قد تفضي إلى الزواج ) فكثيرا ما تتحول المودة إلى حب و الإعجاب إلى حب ،  و من ثم إلى عشق .فالحدود الفاصلة موجودة بينها طبعا لكنا رفيعة. وهكذا تتحول استنتاجاتنا و نحن في مجال العلاقات إلى قرارات في مجال العواطف . فيحب الطبيب المريضة أو العكس و الأستاذ الطالبة أو العكس ... المهم أننا نضع أنفسنا بأيدينا في المتاهة ، معتقدين أن عمق علاقتنا دليلعلى صدق مشاعرنا. و قد يُحب كلانا الآخر من نفس المنطلق الخاطيء ( ليتبين الخلل بعد ذلك و قد ارتبطنا و ربما نتج عن الزواج "الخطأ" أطفال .و ياما نشأت أسر من هذا المنطلق ).




و المشكل أنه في حال و جود بعض الشكوك فإننا نحشد ما يمكن من المؤيدات التي تسند ذلك الموقف .بل إننا خوفا من ألم الإستيقاظ على الحقيقة المرة فإننا نلجأ إلى التخدير ، أي أننا نصطنع العيش السليم و السعادة الكاملة و نحن غير ذلك .



استمعي لأحلام نوم كل منا،







أنظري إلى ملابسنا و ألوان ملابسنا







تأملي نوعيات أكلنا و كميات أكلنا

أحضري أفراحنا و أعراسنا


تأملي مقتنياتنا ...


إنها تنبيء عن هروب إلى الأمام في كثير من الأحيان ، إنها تكاد تكون سلوكات مقنعة برانية تخفي و راءها عواطف و مشاعر و أحاسيس جوانية غير سليمة ، أو لنقل غير مدروسة .






و صل الترام إلى محطة نهاية الخط و في القلب بقية من الموضوع. نزلنا إلى الرصيف و انتظرت أي كلام منها و قبل أن تقول كلمة بادرتها بسؤال :


ـ هل الألفة هي الحب ؟ و هل الكلام المعسول من الطرفين هو التفاهم ؟ و هل الكلمات المنمقة و الأبيات المرتجلة أو المنقولة برهان الحب ؟




هل تعرفين كيف تميزين بيت الحب و الشفقة ؟


. سأتركك تجيبين على كل الأسئلة مع نفسك و لكن سأساعدك على العثور على جواب السؤال الأخير.

إن لكل فتاة مواصفات لفتى أحلامها . خذي ورقة وقلما وعددي تلك الصفات بدون كرم ثم قارنيها بصفات من هو متوفر لديك .إن وجدت النتيجة مقبولة فاحسمي أمرك بالقبول أو الرفض و إن وجدت غير ذلك فاحسمي أمرك بالرفض دون تأنيب من الضمير و لن تندمي . و لا تكوني كمن يفرح دون أن يدري لماذا و لا كالذي يتزوج دون أن يفهم ما هو بصدده . لا تكوني كالأطرش في الزفة كما يقال .

 و قبل أن أنهي كلامي تذكرت شيئا طريفا . ففاجأتها قائلا :


ـ ألا زلت تحبين شكلاتة الكلاكسي .


و بدون أن تفهم العلاقة بموضوع الحديث قالت نعم وضحكت لأول مرة منذ أن التقينا


ـ إنك تحبين شكلاتة الكلاكسي لأنها تعجبك دون غيرها ، و لأنها تلبي كل شروطك، هذا قرارك ؟ فأنت لا تبغين عنها بديلا كما عهدتك. أليس كذلك ؟ قالت نعم و هي تقهقه.


و في هذه اللحظة استخرجت من جيب محفظتي قطعة كلاكسى . مدت يدها كطفلة صغيرة لتأخذها و قبل أن تظفر بها قلت :


ـ ليكن موقفك ممن تحدثنا عنه كموقفك من شكلاتة الكلاكسي :اختاري بحرية و ارفضي بحرية ما دامت هناك إمكانية .وليكن شعارك دوما :الكلاكسي اختياري.



الحب


                                                        
                                                        كلام للكلوم 02
                                  
 كلام للكلوم* …كلام ليس كالكلام …كلام الشوط الاكبر لرحلة الانسان …انحناءات حروف  لاحتواء  ألم  الروح  و  جراحات النفس .

*كُلوم…جمع : كلم أي : جُرح



                             الـــحُـــــب        
                   الحب نعمة من الله لكن الإنسان هو من يـُـغـذيه.