التقيت به مقضب الجبين عابس الوجه . نظراته منطلقة
إلا اللا نهاية ،لا يرف له الجفن كان في وضعية التوقف المطول.
.ماذا حدث له و هو ذو الوجه الطلق و الثغر الضاحك .
أين سحنته التي توحى بالإطمئنان ؟
و أين نبرة صوته التي تشد الأسماع ؟
غاب كل
شيء و كأنه لم يبق مما أعرفه عنه إلا صورة
اللحم و الدم ..
أين أبا ضحكة؟
اقتربتُ منه قليلا قليلا و روويدا رويدا بدأت معه حديثا
عاما مما افترضت أنه سيجذبه . نظر إلي بعد
طول صمت نظرة كأنه اكتشف وجودي فجأة ثم
أطلق العنان لعينيه متمتما بكلام بخلت
شفتاه بالبوح به .
لم أهتم للأمر ، و واصلت حديثي حول الدنيا و
أحوالها و المشاكل التي تحد ق بالإنسان من
الصباح إلى المساء بل من المهد إلى اللحد .
نظر إلي مرة أخرى رافعا حاجبيه معا. طمعت في كلمة
منه لكن أشاح برأسه عني دون أن ينبس ببنت شفة .
لم أيأس فرَفـْعــُه لحاجبيه
أعطاني الإشارة أنه بعد لحظات سيتكلم ...هذا ما تقوله تجربتي مع أبي ضحكة .
تصبرت عاقدا العزم ليس على إخراجه مما هو فيه ـ فهذا تفاؤل كبير مني ـ لكني ـ بطبعه الذي أعرفه عنه ـ اقتنعت أنه على وشك الكلام . يبقي أن أجد النقطة
التي تــُـفيض كأس شكواه ...
و أين سأجد تلك النقطة يا ترى .
بعد لحظات تهلل وجهي لما خطرت ببالى فكرة ...
النقطة التي ستفيض الكأس هي المرأة . و من يمل
الحديث عن النساء من الرجال؟ و من يمل الحديث عن الرجال من النساء ؟ فلا بد لكل
منهما سهم فيه حلالا كان أو حراما .
موضوع النساء لابد أن يـــُسيل شيئا و بالتالي
لابد ان تــَــفيض كأس صاحبي ، لابد .
أنا و البحر سيان لطفا : أرجو ان تضغط على الفيديو و تنظر إليه لحظات قبل القراءة ... و شكرا
ملحوظة : حالتي دامت ثلاثة أيام، والفيديو الذي بين يديك مدته ثلاث ساعات وأحاسيسي التي ُصغتها في سطور قليلة عشتها ثلاثة أيام كاملة... الأزمنة نسبية في حقيقة الأمر ،و المعاناة هي الفيصل. مع تحيات عبد العزيز أعطار
أول أمس وقفت ليلا على شاطيء البحر كنت غاضبا من نفسي
ومن ظروفي ومن... ومن... ومن كل شيء .فكانت الأموج العاتية و الرياح والأمطار
والبرق معها ليس ببعيد ، كانت كلها تضرب صخر الخليج . و كان الصدى، صدى نفسي .
و في البارحة كنت
هناك في الموعد كان البحر هادئا تحت ضوء القمر.كانت أضواء قوارب الصيد تتلألأ حيث
يلتحم سطح البحر بالسماء . فاغرورقت أعيني بماء الأفق و اختلطت خواطري بآمال الصيادين هناك
، آمال امتزجت بتسابيحَ ترجمها الموج
المتكسر على الشاطيء الرملي للخليج بياضا في بياض . وكان البياض صدى لنفسي .
اليوم عدت صباحا
لأزور خليلي . بادرني كعادته برطوبته و ثنى برائحته و ثلث كعادته بوجهه الأزرق الواعد .كان هادئا كنفسي .يعلو وينخفض
كصدري كان المشهد صدى لنفسي.
لم تعد لنا زفرات
. و الأمواج التي لم تغب، كانت تعلو الصخر لتصنع منه الصدى / صدى نفسي ، لتجلو عنه
خاضعـــة بلا أسباب . و المويجات ؟ احتفظت
ُمويجاته المتكسرة بتسابيحنا وبقي
بياضنا بياض .
ألم أقل لكم إنني و البحر ســـيـــان ، فسبحان من خلقنا .
لطفا: المرجو تأمل أمواج البحر في الفيديو مرة ثانية . مدة الفيديو طويلة . انظر إلى الأفق و تأمل الصخر و الأمواج و بياض الأمواج . تأمل كل جنبات الصورة لعلك تجد نفسك أنت أيضا كما وجدتها ، و عند ذلك سنكون أنا و أنت و البحر سيان ...
اغرورقت عيناي وأنا أتتبع جواب أحد الشيوخ الفضلاء
عن سؤال حول مايمكن للزوج أن يفعله لزوجته المتوفاه ليدخل عليها السعادة .كنت أعرف
الجواب الذي سيقوله الشيخ و لكن ما اثار انتباهي هو طبيعة سؤال الزوج .و ما أثار
شجوني هو ماذا لو كان السائل هو أنا .
فالعلاقات الزوجية وصلت بين بعض الأزواج اليوم ليس للفراق ،فهذا أرحم ،و قد
تصل إلى القتل و هذا معروف و مشهود في الواقع. وبين هذا وذاك هناك من يكابد حياة
زوجية لا يموت فيها و لا يحيى. ما أثار انتباهي هو بحثي عن موقع العلاقة
الزوجية للسائل ضمن الحالات التي سبقت
الإشارة إليها .هل كانت حياته باللطف و السلاسة و الحب الذي يجعله يحفظ الذكرى ،
ام أنه يعوض ما قد يكون فاته في علاقته مع حبيبته قصدا أو دون قصد. الحقيقة أنني
خلصت من هذه التساؤلات باقتناعي بأن ما سأل عن مشروعية فعله خيرٌ كله بلا ريب. و
خلوصي السريع ذاك كان رغبتي الدفينة في التجاوب مع سؤالي الذي أثار شجوني كما سبق
و الذي ألح علي بشكل جعلني أنظر للحدث
كأنه وقع فعلا .و لكم أن تتخيلوا ما يمكن تصوره وأنا أتناول الموضوع ذاتيا في
مونولوج تغمره مسوح من الأحزان ، كتلك التي تنتابك و أنت تستمع إلى كونشيرتو أرانخويس – de Aranjuez
و المختلطة بمحيطات من التقديرلزوجتي الحبيبة
الحانية و الإعتراف الصادق بيني وبين نفسي بحجمها الحقيقي في حياتي . و في الأخير حمدت الله أنها بين يدي ترفل بالصحة و العافية و جددت العهد مع
نفسي على الرفق بها و تعهـدها كما كنت سأتمنى لو لم تكن بين يدي اليوم .
وبينما كنت أستعد للخروج لقضاء بعض شؤوني بادرتني
زوجتي بطلبيات للبيت ،طلبيات عادية للتذكير ،لكن رغم كونها عادية فقد تمكنت بها من
أن تخرجني من برجي العاجي المنيع ،الذي كنت أظنها تسكن معي فيه . أقول أظن لأنني
أنا من أسكنها فيه معي لكن طلبيات بسيطة و عادية اخرجتني إلى وضع آخر لن أقول
متناقض مع ما كنت فيه قبل هنيهة و لكن يمكن ان أقول بعيدا عما كنت فيه .و لن أقول
إنني أرعدت و أزبدت و لكن كدت أن أنطق بما لا ينبغي أن يتفوه به محب .خرجت على مضض
أقفز على عدد من الخواطر التي أرادت أن تـُفرخ في البيت قبل خروجي .لكن نجوت منها بنفسي و أنا أتسائل
خجلا من نفسي عن سبب تغيري المفاجيء. و بعد لحظات هدأت نفسي و أدركت أن بعض
الأحاسيس التي تنتابنا لا علاقة لها بالصدق أو عدم الصدق في مشاعر الحب تجاه شخص ما . لأنها تكون أحيانا كثيرة مجرد أحاسيس
مطروحة في طريق الأفكار. كالأشياء التي تراها مطروحة في سوق الأشياء .
فنظرك إليها مرة لا يعني انك ستشتريها أو أنها تهمك .فهناك تشابه كبير في مواقفنا
أمام عالم الأشياء و عالم الأفكار أليس كذلك؟
المهم أنني عدت بعد دقائق إلى بيتي فوجدت زوجتي
كما تركتها ،هممت بالإعتذار لكني فضلت الجلوس قربها مستغلا اقتراحها مشروبا ساخنا
فناولتني ، لا ناولتني كأسا هو عبارة عن خليط من النعناع و مرددوش و البابنوج
وغيرها من الورقيات الشتوية اللذيذة فاحتسيت الكأس الأولى و طلبت ثانية لأنتبه
أنها بدون سكر .ضحكت زوجتي وانا أخبرها أن كل كؤوسا محلاة بها هي ولم يكن هناك
حاجة للسكر وأن هذا يكفيني. قلتها صادقا و بتلقائية.
اه ،العاطفة عاصفة ،كما كان يقول لي أبي رحمه الله
.وبالفعل من العواصف ما قتل .و من العواصف ما أحيا .
سألت
زوجتي وأنا استعد للخروج إلى المسجد لصلاة المغرب : ـ هل من طلبيات ياسيدتي ؟
التفتت إلي مستفهمة :
ـ نعم ؟
ـ هل من طلبيات؟ قلتها وأنا مبتسم
نظرت إلي مبتسمة ، و لم نمتلك أنفسنا من الضحك ،
فقالت متلعثمة:
ـ نعم نعم هناك شيء نحتاجه و لكن لا أتذكره الآن
...
ضحكنا عاليا مرة أخرى و غادرتُ مهرولا...
. لم أكن أقصد و لكن هذه المرة شعرت أنني عدت إلى
برجي العاجي و عادت هي معي بإرادتها فأصبح
برجا ذهبيا .تأكد لي ذلك بالفعل بعد عشرين دقيقة لما عدت إليها واضعا في
يديها الباردتين خمسين غراما من الكاكاو
المحمص المملح الساخن ، فأطبقت كفيها على الكاكاو و هي تصيح سعيدة :آه ...آه... و
أطبقتُ كفي على يديها و قد اغرورقت عيناي فرحا ليس لفرحها فقط ولكن لاكتشافي انه
يمكنني إسعاد امرأة و هي أمامي و ليس علي انتظار فرصة فقدانها لأقوم بذلك . ماذا
سيفيدها حناني و هي بعيدة عني .نعم سينفعها دعائي و صيامي و صدقتي وحجي .ولك ما الضير وما المانع من أن تستفيد من كل ذلك و قد
أسعدتها و أرحتها في حياتها وهي معي ؟ كانت أمي تقول في مثل هذه الأوضاع بالدارجة المغربية: إن الذي يريد أن يبكي علي،
عليه أن يبكي علي في حياتي ،و تقصد أن حنان أي كان يجب أن يصلها و أن تشعر به في
حياتها ، أما بعد الموت فإن الله هو من سيتولاها برحمته.
ليس المهم أن تحمل للآخر مشاعر طيبة ،المهم ان
تبلغه بها
ليس المهم أن تحمل للآخر مشاعر طيبة و أن تبلغه
بها، المهم أن يلمسها فيك تجاهه.
إن خمسين غراما من حبات الكاكاو التي حملتها
لزوجتي ليست مهمة في ذاتها و لكن المهم هو
تلك الروح التي حملتها إليها . المهم هي تلك الإبتسامة التي تشعرها بأهميتها في
حياتي .
وبمناسبة الحديث عن الزوج الذي سأل عما يمكن أن
يسعد زوجته المتوفاة ولكي نختم كلامنا
بشيئ من المرح تحضرني قصة زوج آخر على النقيض قالت له زوجته :
ـ أرأيت ياحاج ماذا فعل جارنا لزوجته المتوفاه ؟
ـ وماذا فعل ؟
ـ إنه بنى مسجدا باسمها...
ـ هيه ... إن الأرض موجودة ونرجو أن تطلقوا أيدينا
للبناء.